فصل: تفسير الآيات رقم (113 - 114)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏

يخبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عباده المطيعين له؛ ولهذا قال الحسن البصري وقتادة‏:‏ بايعهم والله فأغلى ثمنهم‏.‏

وقال شَمِر بن عطية‏:‏ ما من مسلم إلا ولله، عز وجل، في عُنُقه بيعة، وفَّى بها أو مات عليها، ثم تلا هذه الآية‏.‏ ولهذا يقال‏:‏ من حمل في سبيل الله بايع الله، أي‏:‏ قَبِل هذا العقد ووفى به‏.‏

وقال محمد بن كعب القُرَظي وغيره‏:‏ قال عبد الله بن رواحة، رضي الله عنه، لرسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني ليلة العقبةِ -‏:‏ اشترط لربك ولنفسك ما شئت‏!‏ فقال‏:‏ ‏"‏أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ فما لنا إذا فعلنا ذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الجنة‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ رَبِح البيعُ، لا نُقِيل ولا نستقيل، فنزلت‏:‏‏}‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ‏}‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ سواء قتلوا أو قُتلوا، أو اجتمع لهم هذا وهذا، فقد وجبت لهم الجنة؛ ولهذا جاء في الصحيحين‏:‏ ‏"‏وتكفل الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وتصديق برسلي، بأن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ‏}‏ تأكيد لهذا الوعد، وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة، وأنزله على رسله في كتبه الكبار، وهي التوراة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والقرآن المنزل على محمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ ولا واحد أعظم وفاءً بما عاهد عليه من الله‏]‏ فإنه لا يخلف الميعاد، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 87‏]‏‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 122‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ أي‏:‏ فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد، بالفوز العظيم، والنعيم المقيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏

هذا نعتُ المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة‏:‏ ‏{‏التَّائِبُونَ‏}‏ من الذنوب كلها، التاركون للفواحش، ‏{‏الْعَابِدُونَ‏}‏ أي‏:‏ القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها، وهي الأقوال والأفعال فمن أخَصّ الأقوال الحمد ؛ فلهذا قال‏:‏ ‏{‏الْحَامِدُونَ‏}‏ ومن أفضل الأعمال الصيامُ، وهو ترك الملاذِّ من الطعام والشراب والجماع، وهو المراد بالسياحة هاهنا؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏السَّائِحُونَ‏}‏ كما وصف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَائِحَاتٍ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 5‏]‏ أي‏:‏ صائمات، وكذا الركوع والسجود، وهما عبارة عن الصلاة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ‏}‏ وهم مع ذلك ينفعون خلق الله، ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركُه، وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه، علما وعملا فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ لأن الإيمان يشمل هذا كله، والسعادة كل السعادة لمن اتصف به‏.‏

‏[‏بيان أن المراد بالسياحة الصيام‏]‏‏:‏‏}‏

قال سفيان الثوري، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ ‏{‏السَّائِحُونَ‏}‏ الصائمون‏.‏ وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير، والعوفي عن ابن عباس‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ كل ما ذكر الله في القرآن السياحة، هم الصائمون‏.‏ وكذا قال الضحاك، رحمه الله‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد، حدثنا إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت‏:‏ سياحةُ هذه الأمة الصيام‏.‏

وهكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَير، وعطاء، وأبو عبد الرحمن السلمي، والضحاك بن مُزاحم، وسفيان بن عُيينة وغيرهم‏:‏ أن المراد بالسائحين‏:‏ الصائمون‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏السَّائِحُونَ‏}‏ الصائمون شهر رمضان‏.‏

وقال أبو عمرو العَبْدي‏:‏ ‏{‏السَّائِحُونَ‏}‏ الذين يديمون الصيام من المؤمنين‏.‏

وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا، وقال ابن جرير‏:‏ حدثني محمد بن عبد الله بن بَزِيع، حدثنا حكيم بن حزام، حدثنا سليمان، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏السائحون هم الصائمون‏"‏

‏[‏ثم رواه عن بُنْدَار، عن ابن مهدي، عن إسرائيل، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ ‏{‏السَّائِحُونَ‏}‏ الصائمون‏]‏‏.‏ وهذا الموقوف أصح‏.‏

وقال أيضا‏:‏ حدثني يونس، عن ابن وهب، عن عمر بن الحارث، عن عمرو بن دينار، عن عُبَيد بن عُمَير قال‏:‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين فقال‏:‏ ‏"‏هم الصائمون‏"‏‏.‏

وهذا مرسل جيد‏.‏

فهذه أصح الأقوال وأشهرها، وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد، وهو ما روى أبو داود في سننه، من حديث أبي أمامة أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، ائذن لي في السياحة‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله‏"‏‏.‏

وقال ابن المبارك، عن ابن لَهِيعة‏:‏ أخبرني عُمارة بن غَزِيَّة‏:‏ أن السياحة ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أبدلنا الله بذلك الجهاد في سبيل الله، والتكبير على كل شرف‏"‏‏.‏

وعن عِكْرِمة أنه قال‏:‏ هم طلبة العلم‏.‏ وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ هم المهاجرون‏.‏ رواهما ابن أبي حاتم‏.‏

وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض، والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتَن والزلازل في الدين، كما ثبت في صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يوشك أن يكون خير مال الرجل غَنَم يَتْبَع بها شَعفَ الجبال، ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن‏"‏‏.‏

وقال العوفي وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ‏}‏ قال‏:‏ القائمون بطاعة الله‏.‏ وكذا قال الحسن البصري، وعنه رواية‏:‏ ‏{‏وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ‏}‏ قال‏:‏ لفرائض الله، وفي رواية‏:‏ القائمون على أمر الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113 - 114‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبيه قال‏:‏ لما حَضَرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبي أمية، فقال‏:‏ ‏"‏أيْ عَمّ، قل‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ كلمة أحاجّ لك بها عند الله، عز وجل‏"‏‏.‏ فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية‏:‏ يا أبا طالب، أترغب عن ملَّة عبد المطلب‏؟‏ ‏[‏قال‏:‏ فلم يزالا يكلمانه، حتى قال آخر شيء كلمهم به‏:‏ على ملة عبد المطلب‏]‏‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك‏"‏‏.‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏}‏ قال‏:‏ ونزلت فيه‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏ أخرجاه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن آدم، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل، عن علي، رضي الله عنه، قال‏:‏ سمعت رجلا يستغفر لأبويه، وهما مشركان، فقلت‏:‏ أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان‏؟‏ فقال‏:‏ أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه‏؟‏ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏لما مات‏"‏، فلا أدري قاله سفيان أو قاله إسرائيل، أو هو في الحديث ‏"‏لما مات‏"‏‏.‏ قلت هذا ثابت عن مجاهد أنه قال‏:‏ لما مات‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا زهير، حدثنا زبيد بن الحارث اليامي عن محارب بن دثار، عن ابن بُرَيْدة، عن أبيه قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تَذْرِفان، فقام إليه عمر بن الخطاب وفَداه بالأب والأم، وقال‏:‏ يا رسول الله، ما لك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إني سألت ربي، عز وجل، في الاستغفار لأمي، فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث‏:‏ نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، لتذكركم زيارتُها خيرًا، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وأمسكوا ما شئتم، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية، فاشربوا في أي وعاء ولا تشربوا مسكرا‏"‏‏.‏ وروى ابن جرير، من حديث علقمة بن مَرْثد، عن سليمان بن بُرَيدة، عن أبيه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رَسْمَ قبر، فجلس إليه، فجعل يخاطب، ثم قام مستعبرًا‏.‏ فقلنا‏:‏ يا رسول الله، إنا رابنا ما صنعت‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي‏"‏‏.‏ فما رئي باكيا أكثر من يومئذ‏.‏

وقال ابن أبي حاتم، في تفسيره‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا خالد بن خِداش، حدثنا عبد الله بن وهب، عن ابن جرَيج عن أيوب بن هانئ، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ خرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر، فاتبعناه، فجاء حتى جلس إلى قبر منها، فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب، فدعاه ثم دعانا، فقال‏:‏ ‏"‏ما أبكاكم‏؟‏‏"‏ فقلنا‏:‏ بكينا لبكائك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏إن القبر الذي جلستُ عنده قبر آمنة، وإني استأذنتُ ربي في زيارتها فأذن لي‏"‏ ثم أورده من وجه آخر، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبا منه، وفيه‏:‏ ‏"‏وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي، وأنزل علي‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى‏}‏ فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة‏"‏‏.‏

حديث آخر في معناه‏:‏ قال الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن علي المروزي، حدثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كَيْسَان، عن أبيه، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك واعتمر، فلما هبط من ثنية عُسْفان أمر أصحابه‏:‏ أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم، فذهب فنزل على قبر أمّه، فناجى ربَّه طويلا ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه، وبكى هؤلاء لبكائه، وقالوا‏:‏ ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أُحدثَ في أمته شيء لا تُطيقه‏.‏ فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم، فقال‏:‏ ‏"‏ما يبكيكم‏؟‏‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا نبي الله، بكينا لبكائك، فقلنا‏:‏ لعله أحدث في أمتك شيء لا تطيقه، قال‏:‏ ‏"‏لا وقد كان بعضه، ولكن نزلت على قبر أمي فدعوت الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة، فأبى الله أن يأذن لي، فرحمتها وهي أمّي، فبكيت، ثم جاءني جبريل فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ‏}‏ فتبرّأ أنت من أمك، كما تبرأ إبراهيم من أبيه، فرحمْتُها وهي أمي، ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعًا، فرفع عنهم اثنتين، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين‏:‏ دعوتُ ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغَرَق من الأرض، وألا يلبسهم شيعا، وألا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الرجم من السماء، والغرق من الأرض، وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج‏"‏‏.‏ وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كَداء وكانت عُسْفان لهم‏.‏

وهذا حديث غريب وسياق عجيب، وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب ‏"‏السابق واللاحق‏"‏ بسند مجهول، عن عائشة في حديث فيه قصة أن الله أحيا أمَّه فآمنت ثم عادت‏.‏ وكذلك ما رواه السهيلي في ‏"‏الروض‏"‏ بسند فيه جَمَاعة مجهولون‏:‏ أن الله أحيا له أباه وأمه فآمنا به‏.‏

وقد قال الحافظ ابن دِحْيَةَ‏:‏ ‏[‏هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقال أبو عبد الله القرطبي‏:‏ إن مقتضى هذا الحديث‏.‏‏.‏‏.‏ وردَّ عَلَى ابن دِحية‏]‏ في هذا الاستدلال بما حاصله‏:‏ أن هذه حياة جديدة، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلى عَلِيٌّ العصر، قال الطحاوي‏:‏ وهو ‏[‏حديث‏]‏ ثابت، يعني‏:‏ حديث الشمس‏.‏

قال القرطبي‏:‏ فليس إحياؤهما يمتنع عقلا ولا شرعا، قال‏:‏ وقد سمعت أن الله أحيا عمه أبا طالب، فآمن به‏.‏ قلت‏:‏ وهذا كله متوقف على صحة الحديث، فإذا صح فلا مانع منه والله أعلم‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏ الآية، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمه، فنهاه الله عن ذلك فقال‏:‏ ‏"‏فإنّ إبراهيم خليل الله استغفر لأبيه‏"‏، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ‏}‏ الآية‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في هذه الآية‏:‏ كانوا يستغفرُون لهم، حتى نزلت هذه الآية، فلما ‏[‏نزلت أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا‏]‏ ثم أنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ‏}‏ الآية‏.‏

وقال قتادة في هذه الآية‏:‏ ذُكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ يا نبي الله، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار، ويصل الأرحام، ويفُكّ العاني، ويوفي بالذمم؛ أفلا نستغفر لهم‏؟‏ قال‏:‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بلى، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه‏"‏‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏ حتى بلغ‏:‏ ‏{‏الْجَحِيمِ‏}‏ ثم عذر الله تعالى إبراهيم، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ‏}‏ قال‏:‏ وذُكر لنا أن نبي الله قال‏:‏ ‏"‏أوحى إليّ كلمات، فدخلن في أذني ووقَرْن في قلبي‏:‏ أمِرْتُ ألا أستغفرَ لمن مات مشركا، ومن أعطى فَضْلَ ماله فهو خيرٌ له، ومن أمسك فهو شرٌ له، ولا يلوم الله على كَفاف‏"‏‏.‏

وقال الثوري، عن الشيباني، عن سعيد بن جُبير قال‏:‏ مات رجل يهودي وله ابن مسلم، فلم يخرج معه، فذكر ذلك لابن عباس فقال‏:‏ فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيا، فإذا مات وكَّله إلى شأنه ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ‏}‏ لم يَدْعُ‏.‏

‏[‏قلت‏]‏ وهذا يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره، عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ لما مات أبو طالب قلت‏:‏ يا رسول الله، إن عمك الشيخ الضال قد مات‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏اذهب فَوَاره ولا تُحْدثَنَّ شيئا حتى تأتيني‏"‏‏.‏ وذكر تمام الحديث‏.‏

ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مَرّت به جنازة عمه أبي طالب قال‏:‏ ‏"‏وَصَلتكَ رَحِمٌ يا عم‏"‏‏.‏

وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة، ولو كانت حبشية حبلى من الزنا؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا على المشركين، يقول الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏

وروى ابنُ جَرير، عن ابن وَكِيع، عن أبيه، عن عصمة بن زامل، عن أبيه قال‏:‏ سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه‏.‏ قلت‏:‏ ولأبيه‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ إن أبي مات مشركا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه‏.‏ وفي رواية‏:‏ لما مات تبين له أنه عدو لله‏.‏ وكذا قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، وغيرهم، رحمهم الله‏.‏

وقال عُبَيْد بن عمير، وسعيد بن جُبَيْر‏:‏ إنه يتبرأ منه ‏[‏في‏]‏ يوم القيامة حين يلقى أباه، وعلى وجه أبيه الغُبرة والقُتْرة فيقول‏:‏ يا إبراهيم، إني كنت أعصيك وإني اليوم لا أعصيك‏.‏ فيقول‏:‏ أيْ رَبي، ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون‏؟‏ فأيّ خزْي أخزى من أبي الأبعد‏؟‏ فيقال‏:‏ انظر إلى ما وراءك، فإذا هو بِذِيخٍ متلطخ، أي‏:‏ قد مسخ ضِبْعانًا، ثم يسحب بقوائمه، ويلقى في النار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏ قال سفيان الثوري وغير واحد، عن عاصم بن بَهْدَلة، عن زِرّ بن حُبَيش، عن عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ الأواه‏:‏ الدَّعَّاء‏.‏ وكذا روي من غير وجه، عن ابن مسعود‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني المثنى‏:‏ حدثنا الحجاج بن مِنْهال، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرام، حدثنا شَهْر بن حَوشب، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال‏:‏ بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس قال رجل‏:‏ يا رسول الله، ما الأوّاه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏المتضرع‏"‏، قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏

ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن المبارك، عن عبد الحميد بن بَهْرَام، به، قال‏:‏ المتضرع‏:‏ الدَّعَّاء‏.‏

وقال الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مسلم البَطِين عن أبي العُبَيْديْن أنه سأل ابن مسعود عن الأواه، فقال‏:‏ هو الرحيم‏.‏

وبه قال مجاهد، وأبو ميسرة عمرو بن شُرَحْبيل، والحسن البصري، وقتادة‏:‏ أنه الرحيم، أي‏:‏ بعباد الله‏.‏وقال ابن المبارك، عن خالد، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال‏:‏ الأوَّاه‏:‏ الموقن بلسان الحبشة‏.‏ وكذا قال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ أنه الموقن‏.‏ وكذا قال مجاهد، والضحاك‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة، ومجاهد، عن ابن عباس‏:‏ الأواه‏:‏ المؤمن -زاد علي بن أبي طلحة عنه‏:‏ المؤمن التواب‏.‏ وقال العوفي عنه‏:‏ هو المؤمن بلسان الحبشة‏.‏ وكذا قال ابن جُرَيْج‏:‏ هو المؤمن بلسان الحبشة‏.‏

وقال أحمد‏:‏ حدثنا موسى، حدثنا ابن لهِيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ‏"‏ذو البِجادين‏"‏‏:‏ ‏"‏إنه أواه‏"‏، وذلك أنه رجل كثير الذكر لله في القرآن ويرفع صوته في الدعاء‏.‏ ورواه ابن جرير‏.‏

وقال سعيد بن جبير، والشعبي‏:‏ الأواه‏:‏ المسبّح‏.‏ وقال ابن وهب، عن معاوية بن صالح، عن أبي الزاهرية، عن جُبَير بن نفير، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال‏:‏ لا يحافظ على سبحة الضحى إلا أواه‏.‏ وقال شُفَى بن مانع، عن أيوب‏:‏ الأواه‏:‏ الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها‏.‏

وعن مجاهد‏:‏ الأواه‏:‏ الحفيظ الوجل، يذنب الذنب سرا، ثم يتوب منه سرا‏.‏ ذكر ذلك كلَّه ابن أبي حاتم، رحمه الله‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا المحاربي، عن حجاج، عن الحكم، عن الحسن بن مسلم بن يناق‏:‏ أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبّح، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏إنه أواه‏"‏‏.‏

وقال أيضا حدثنا أبو كُرَيب، حدثنا ابن يمان، حدثنا المِنْهَال بن خليفة، عن حَجّاج بن أرطأة، عن عطاء، عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتا، فقال‏:‏ ‏"‏رحمك الله إن كنتَ لأواها‏"‏‏!‏ يعني‏:‏ تَلاءً للقرآن وقال شعبة، عن أبي يونس الباهلي قال‏:‏ سمعت رجلا بمكة -وكان أصله روميا، وكان قاصا -يحدث عن أبي ذر قال‏:‏ كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه‏:‏ ‏"‏أوّه أوّه‏"‏، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنه أواه‏.‏ قال‏:‏ فخرجت ذات ليلة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح‏.‏ هذا حديث غريب رواه ابن جرير ومشاه‏.‏

وروي عن كعب الأحبار أنه قال‏:‏‏}‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ‏}‏ قال‏:‏ كان إذا ذكر النار قال‏:‏ ‏"‏أوّه من النار‏"‏‏.‏

وقال ابن جُرَيْج عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ‏}‏ قال‏:‏ فقيه‏.‏

قال الإمام العلم أبو جعفر بن جرير‏:‏ وأولى الأقوال قول من قال‏:‏ إنَّه الدعَّاء، وهو المناسب للسياق، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياه، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها؛ ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه في قوله‏:‏ ‏{‏أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا‏.‏ قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 46، 47‏]‏، فحلم عنه مع أذاه له، ودعا له واستغفر؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115 - 116‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل‏:‏ إنه لا يضل قوما بعد بلاغ الرسالة إليهم، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ الآية ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وقال مجاهد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ‏}‏ قال‏:‏ بيان الله، عز وجل، للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة، فافعلوا أو ذَروا‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا، فأما قبل أن يبين لكم كراهيته ذلك بالنهي عنه، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي، وأما من لم يُؤمَر ولم يُنْهَ فغير كائن مطيعا أو عاصيًا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ هذا تحريض من الله لعباده المؤمنين في قتال المشركين وملوك الكفر، وأن يثقوا بنصر الله مالك السماوات والأرض، ولم يرهبوا من أعدائه فإنه لا ولي لهم من دون الله، ولا نصير لهم سواه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صفوان بن مُحْرِز، عن حكيم بن حزام قال‏:‏ بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم‏:‏ ‏"‏هل تسمعون ما أسمع‏؟‏‏"‏ قالوا ما نسمع من شيء‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني لأسمع أطيط السماء، وما تلام أن تَئطَّ، وما فيها من موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم‏"‏‏.‏

وقال كعب الأحبار‏:‏ ما من موضع خرمة إبرة من الأرض إلا وملك موكل بها، يرفع علم ذلك إلى الله، وإن ملائكة السماء لأكثر من عدد التراب، وإن حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى مُخّه مسيرة مائة عام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏

قال مجاهد وغير واحد‏:‏ نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر في سنة مُجدبة وحر شديد، وعسر من الزاد والماء‏.‏

قال قتادة‏:‏ خرجوا إلى الشام عام تبوك في لَهَبان الحر، على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهد شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم، يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ‏[‏ثم يمصها هذا، ثم يشرب عليها‏]‏ فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جُبَير بن مطعم، عن عبد الله بن عباس؛ أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر بن الخطاب‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عَطَش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ‏[‏حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع‏]‏ حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فَرْثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق‏:‏ يا رسول الله، إن الله عز وجل، قد عَوّدك في الدعاء خيرا، فادع لنا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏تحب ذلك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ نعم‏!‏ فرفع يديه فلم يرجعهما حتى مالت السماء فأظَلَّت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر‏.‏

وقال ابن جرير في قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ‏}‏ أي‏:‏ من النفقة والظهر والزاد والماء، ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ عن الحق ويشك في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرتاب، بالذي نالهم من المشقة والشدة في سفره وغزوه، ‏{‏ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ‏}‏ يقول‏:‏ ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم، والرجوع إلى الثبات على دينه، ‏{‏إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118 - 119‏]‏

‏{‏وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله، عن عمه محمد بن مسلم الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب بن مالك -وكان قائد كعب من بنيه حين عَمى -قال‏:‏ سمعت كعب بن مالك يحدّث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال كعب بن مالك‏:‏ لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غيرها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر، ولم يعاتَب أحدٌ تخلف عنها، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عِير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد، ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذْكَر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنه في تلك الغزاة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَّما يريد غزوة يغزوها إلا وَرّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازًا، واستقبل عدوا كثيرًا فَجَلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وَجْهَه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ -يريد الديوان -فقال كعب‏:‏ فَقَلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله، عز وجل، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل، وأنا إليها أصعر‏.‏ فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا، فأقول لنفسي‏:‏ أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمَّر بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، وقلت‏:‏ الجهاز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعدما فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا من جهازي‏.‏ ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل ‏[‏ذلك‏]‏ يَتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم -وليت أنّي فعلتُ -ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجتُ في الناس بعد ‏[‏خروج‏]‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏[‏فَطُفتُ فيهم‏]‏ يحزنني ألا أرى إلا رجلا مَغْموصا عليه في النفاق، أو رجلا ممن عذره الله، عز وجل، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك‏:‏ ‏"‏ما فعل كعب بن مالك‏؟‏‏"‏ قال رجل من بني سَلمة‏:‏ حبسه يا رسول الله بُرْداه، والنظر في عَطْفيه‏.‏ فقال له معاذ بن جبل‏:‏ بئسما قلت‏!‏ والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا‏!‏ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال كعب بن مالك‏:‏ فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تَوجَّه قافلا من تبوك حضرني بَثّي فطفقت أتذكر الكَذب، وأقول‏:‏ بماذا أخرج من سخطه غدا‏؟‏ أستعين على ذلك كلّ ذي رأي من أهلي‏.‏ فلما قيل‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادما، زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا‏.‏ فأجمعتُ صدقه، وصَبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس‏.‏ فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له -وكانوا بضعة وثمانين رجلا -فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت، فلما سلَّمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي‏:‏ ‏"‏تعال‏"‏، فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي‏:‏ ‏"‏ما خلَّفك، ألم تك قد اشتريت ظهرك‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سَخَطه بعذر، لقد أعطيتُ جَدَلا ولكنه والله لقد علمتُ لئن حَدّثتك اليوم حديث كَذب ترضى به عني، ليوشكن الله يُسْخطك علي، ولئن حدثتك بصدق تَجدُ عَليّ فيه، إني لأرجو أقرب عقبى ذلك ‏[‏عفوًا‏]‏ من الله، عز وجل والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك‏"‏‏.‏ فقمت وبادرني رجال من بني سلمة واتبعوني، فقالوا لي‏:‏ والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عَجَزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون فقد كان كافيك ‏[‏من ذنبك‏]‏ استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك‏.‏ قال‏:‏ فوالله ما زالوا يؤنّبوني حتى أردت أن أرجع فأُكذِّب نفسي‏:‏ قال‏:‏ ثم قلت لهم‏:‏ هل لقي هذا معي أحد‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، ‏[‏لقيه معك‏]‏ رجلان، قالا ما قلتَ، وقيل لهما مثل ما قيل لك‏.‏ قلت‏:‏ فمن هما‏؟‏ قالوا‏:‏ مُرَارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي‏.‏ فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة‏.‏ قال‏:‏ فمضيت حين ذكروهما لي -قال‏:‏ ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا -أيها الثلاثة -من بين من تخلف عنه، فاجتنَبنَا الناس وتغيّروا لنا، حتى تنكرَتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة‏.‏ فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشَب القوم وأجلَدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم، وأقول في نفسي‏:‏ حَرّك شفتيه برد السلام عليّ أم لا‏؟‏ ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرَض، حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مَشَيت حتى تسورت حائط أبي قتادة -وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي -فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت له‏:‏ يا أبا قتادة، أنشدُك الله‏:‏ هل تعلم أني أحب الله ورسوله‏؟‏ قال‏:‏ فسكت‏.‏ قال‏:‏ فعدتُ فنشدته ‏[‏فسكت، فعدت فنشدته‏]‏ فقال‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ قال‏:‏ ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوّرت الجدار‏.‏ فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطِيٌّ من أنباط الشام، ممن قَدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول‏:‏ من يدل على كعب بن مالك‏؟‏ قال‏:‏ فطفِقَ الناس يشيرون له إليّ، حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فإذا فيه‏:‏ أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هَوان ولا مَضْيَعة، فالحق بنا نُواسكَ‏.‏ قال‏:‏ فقلت حين قرأتها‏:‏ وهذا أيضًا من البلاء‏.‏ قال‏:‏ فتيممت به التنور فَسَجرته حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك‏.‏ قال‏:‏ فقلت‏:‏ أطلقها أم ماذا أفعل‏؟‏ قال‏:‏ بل اعتزلها ولا تقربها‏.‏ قال‏:‏ وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك قال‏:‏ فقلت لامرأتي‏:‏ الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر‏.‏ قال‏:‏ فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له‏:‏ يا رسول الله، إن هلالا شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا ولكن لا يقربَنَّك‏"‏ قالت‏:‏ وإنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما يزال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا‏.‏ قال‏:‏ فقال لي بعض أهلي‏:‏ لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه‏.‏ قال‏:‏ فقلت‏:‏ والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أدري ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب‏؟‏ قال‏:‏ فلبثنا ‏[‏بعد ذلك‏]‏ عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا قال‏:‏ ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا‏:‏ قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سَلْع يقول بأعلى صوته‏:‏ يا كعب بن مالك، أبشر‏.‏ قال‏:‏ فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَل صاحبيّ مبشرون، وركض إلي رجُل فرسًا، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس‏.‏ فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، فنزعت ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون‏:‏ لِيَهْنك توبة الله عليك‏.‏ حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يُهرول، حتى صافحني وهَنَّأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال‏:‏ فكان كعب لا ينساها لطلحة‏.‏ قال كعب‏:‏ فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرُق وجهه من السرور‏:‏ ‏"‏أبشر بخير يوم مَرّ عليك منذ ولدتك أمّك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا بل من عند الله‏"‏‏.‏ قال‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، حتى يعرف ذلك منه‏.‏ فلما جلست بين يديه قلت‏:‏ يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فقلت‏:‏ فإني أمسك سهمي الذي بخيبر‏.‏ وقلت‏:‏ يا رسول الله، إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت‏.‏ قال‏:‏ فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كَذبَةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي‏.‏ قال‏:‏ وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏.‏ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏.‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏ قال كعب‏:‏ فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا أكون كَذَبْتُه فأهلك كما هلك الذين كَذَبوه ‏[‏حين كَذَبُوه‏]‏ ؛ فإن الله تعالى قال للذين كَذَبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏.‏ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 95، 96‏]‏‏.‏ قال‏:‏ وكنا خُلّفنا -أيها الثلاثة -عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسولُ الله أمرَنا، حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله تعالى‏:‏‏}‏ ‏{‏وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا‏}‏ وليس تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خُلِّفنا بتخلفنا عن الغزو، وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه، فقبل منه‏.‏

هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته، رواه صاحبا الصحيح‏:‏ البخاري ومسلم من حديث الزهري، بنحوه‏.‏

فقد تضمن هذا الحديث تفسير هذه الآية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها‏.‏ وكذا رُوي عن غير واحد من السلف في تفسيرها، كما رواه الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا‏}‏ قال‏:‏ هم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومُرارة بن ربيعة وكلهم من الأنصار‏.‏

وكذا قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي وغير واحد -وكلهم قال‏:‏ مُرارة بن ربيعة‏.‏

‏[‏وكذا في مسلم‏:‏ مرارة بن ربيعة في بعض نسخه، وفي بعضها‏:‏ مرارة بن الربيع‏]‏‏.‏

وفي رواية عن سعيد بن جُبَير‏:‏ ربيع بن مرارة‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ ربيع بن مرارة أو مرارة بن ربيع‏.‏

وفي رواية عن الضحاك‏:‏ مُرارة بن الربيع، كما وقع في الصحيحين، وهو الصواب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏فسموا رجلين شهدا بدرا‏"‏، قيل‏:‏ إنه خطأ من الزهري، فإنه لا يُعْرَف شُهودُ واحد من هؤلاء الثلاثة بدرا، والله أعلم‏.‏

ولما ذكر تعالى ما فرّج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب، من هجر المسلمين إياهم نحوا من خمسين ليلة بأيامها، وضاقت عليهم أنفسهم، وضاقت عليهم الأرض بما رَحُبت، أي‏:‏ مع سعتها، فسدّدت عليهم المسالك والمذاهب، فلا يهتدون ما يصنعون، فصبروا لأمر الله، واستكانوا لأمر الله، وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخلفهم، وأنه كان عن غير عذر، فعوقبوا على ذلك هذه المدة، ثم تاب الله عليهم، فكان عاقبة صدقهم خيرا لهم وتوبة عليهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ اصدُقوا والزموا الصدق تكونوا مع أهله وتنجوا من المهالك ويجعل لكم فرجا من أموركم، ومخرجا، وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن شقيق؛ عن عبد الله، هو ابن مسعود، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا‏"‏‏.‏

أخرجاه في الصحيحين‏.‏

وقال شعبة، عن عمرو بن مُرّة، سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال‏:‏ ‏[‏إن‏]‏ الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، اقرءوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ -هكذا قرأها -ثم قال‏:‏ فهل تجدون لأحد فيه رخصة‏.‏

وعن عبد الله بن عمر‏:‏ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏ مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ مع أبي بكر وعمر وأصحابهما‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ إن أردت أن تكون مع الصادقين، فعليك بالزهد في الدنيا، والكف عن أهل الملة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏

يعاتب تعالى المتخلّفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوك، من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل من المشقة، فإنهم نَقَصُوا أنفسهم من الأجر؛ لأنهم ‏{‏لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ‏}‏ وهو‏:‏ العطش ‏{‏وَلا نَصَبٌ‏}‏ وهو‏:‏ التعب ‏{‏وَلا مَخْمَصَةٌ‏}‏ وهي‏:‏ المجاعة ‏{‏وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ‏}‏ أي‏:‏ ينزلون منزلا يُرهبُ عدوهم ‏{‏وَلا يَنَالُونَ‏}‏ منه ظفرًا وغلبة عليه إلا كتب الله لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرتهم، وإنما هي ناشئة عن أفعالهم، أعمالا صالحة وثوابا جزيلا ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 30‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏121‏]‏

‏{‏وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ولا ينفق هؤلاء الغزاة في سبيل الله ‏{‏نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً‏}‏ أي‏:‏ قليلا ولا كثيرا

‏{‏وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا‏}‏ أي‏:‏ في السير إلى الأعداء ‏{‏إِلا كُتِبَ لَهُمْ‏}‏ ولم يقل ها هنا ‏"‏به‏"‏ لأن هذه أفعال صادرة عنهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، من هذه الآية الكريمة حظ وافر، ونصيب عظيم، وذلك أنه أنفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة، والأموال الجزيلة، كما قال عبد الله بن الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو موسى العنزي، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثني سَكَن بن المغيرة، حدثني الوليد بن أبي هاشم، عن فرقد أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن خَبَّاب السلمي قال‏:‏ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان، رضي الله عنه‏:‏ عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها‏.‏ قال‏:‏ ثم حث، فقال عثمان‏:‏ عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها‏.‏ قال‏:‏ ثم نزل مرْقاة من المنبر ثم حث، فقال عثمان بن عفان‏:‏ علىَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها‏.‏ قال‏:‏ فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا -يحركها‏.‏ وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب‏:‏ ‏"‏ما على عثمان ما عمل بعد هذا‏"‏‏.‏

وقال عبد الله أيضا‏:‏ حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ضَمْرَة، حدثنا عبد الله بن شَوْذَب، عن عبد الله بن القاسم، عن كثير مولى عبد الرحمن بن سَمُرة، عن عبد الرحمن بن سمرة قال‏:‏ جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جَهَّز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة قال‏:‏ فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول‏:‏ ‏"‏ما ضَرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم‏"‏‏.‏ يرددها مرارا‏.‏

وقال قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ‏}‏ الآية‏:‏ ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعدًا إلا ازدادوا من الله قربا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ‏}‏

هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نَفير الأحياء مع الرسول في غزوة تبوك، فإنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 41‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏، قالوا‏:‏ فنسخ ذلك بهذه الآية‏.‏

وقد يقال‏:‏ إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها، وشرذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم، ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل من الوحي عليه، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو، فيجتمع لهم الأمران في هذا‏:‏ النفير المعين وبعده، صلوات الله وسلامه عليه، تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه وإما للجهاد؛ فإنه فرض كفاية على الأحياء‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً‏}‏ يقول‏:‏ ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ‏{‏فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ عصبة، يعني‏:‏ السرايا، ولا يَتَسرَّوا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا‏:‏ إن الله قد أنزل على نبيكم قرآنا، وقد تعلمناه‏.‏ فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم، ويبعث سرايا أخرى، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ‏}‏ يقول‏:‏ ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم، وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ‏}‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ نزلت هذه الآية في أناس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفا، ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال الناس لهم‏:‏ ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا‏.‏ فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ‏}‏ يبتغون الخير، ‏{‏لِيَتَفَقَّهُوا ‏[‏فِي الدِّينِ‏]‏‏}‏ وليستمعوا ما في الناس، وما أنزل الله بعدهم، ‏{‏وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ‏}‏ الناس كلهم ‏{‏إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ‏}‏‏.‏

وقال قتادة في هذه الآية‏:‏ هذا إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش، أمرهم الله ألا يُعرَوْا نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وتقيم طائفة مع رسول الله تتفقه في الدين، وتنطلق طائفة تدعو قومها، وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يحلْ لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه، إلا أهل الأعذار‏.‏ وكان إذا أقام فاسترت السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه، فكان الرجل إذا استرى فنزل بعده قرآن، تلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه القاعدين معه، فإذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا‏.‏ فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً‏}‏ يقول إذا أقام رسول الله ‏{‏فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ‏}‏ يعني بذلك‏:‏ أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبي الله صلى الله عليه وسلم قاعد، ولكن إذا قعد نبي الله تسرت السرايا، وقعد معه عُظْم الناس‏.‏ وقال ‏[‏علي‏]‏ بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً‏}‏ فإنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مُضر بالسنين أجدبت بلادهم، وكانت القبيلة منهم تُقبِل بأسرها حتى يحلوا بالمدينة من الجهد، ويعتلّوا بالإسلام وهم كاذبون‏.‏ فضيقوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم‏.‏ فأنزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا مؤمنين، فردهم رسول الله إلى عشائرهم، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ‏}‏‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية‏:‏ كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة، فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم، ويتفقهون في دينهم، ويقولون لنبي الله‏:‏ ما تأمرنا أن نفعله‏؟‏ وأخبرنا ‏[‏ما نقول‏]‏ لعشائرنا إذا قدمنا انطلقنا إليهم‏.‏ قال‏:‏ فيأمرهم نبي الله بطاعة الله وطاعة رسوله، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة‏.‏ وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا‏:‏ إن من أسلم فهو منا، وينذرونهم، حتى إن الرجل ليفارق أباه وأمه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرهم قومهم، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم النار ويبشرونهم بالجنة‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏[‏الشريفة‏]‏ ‏{‏إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏[‏التوبة‏:‏ 39‏]‏، و‏{‏مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا ‏[‏عَنْ رَسُولِ اللَّهِ‏]‏‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏، قال المنافقون‏:‏ هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه‏.‏ وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم، فأنزل الله، عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ‏}‏ الآية، ونزلت‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ‏}‏ الآية ‏[‏الشورى‏:‏ 16‏]‏‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ‏}‏ قال‏:‏ ليتفقه الذين خرجوا، بما يردهم الله من الظهور على المشركين، والنصرة، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ‏}‏

أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام؛ ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة، والطائف، واليمن واليمامة، وهجر، وخيبر، وحضرموت، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا، شرع في قتال أهل الكتاب، فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لكونهم أهل الكتاب، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهْد الناس وجَدْب البلاد وضيق الحال، وكان ذلك سنة تسع من هجرته، عليه السلام‏.‏

ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجته حَجَّة الوداع‏.‏ ثم عاجلته المنية، صلوات الله وسلامه عليه، بعد الحجة بأحد وثمانين يوما، فاختاره الله لما عنده‏.‏

وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر، رضي الله عنه، وقد مال الدين ميلة كاد أن ينجفل، فثبته الله تعالى به فوطد القواعد، وثبت الدعائم‏.‏ ورد شارد الدين وهو راغم‏.‏ ورد أهل الردة إلى الإسلام، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغام، وبين الحق لمن جهله، وأدى عن الرسول ما حمله‏.‏ ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عَبَدَةِ الصلبان وإلى الفرس عبدة النيران، ففتح الله ببركة سفارته البلاد، وأرغم أنفس كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد‏.‏ وأنفق كنوزهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك رسول الإله‏.‏

وكان تمام الأمر على يدي وصيّه من بعده، وولي عهده الفاروق الأوّاب، شهيد المحراب، أبي حفص عمر بن الخطاب، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين، وقمع الطغاة والمنافقين، واستولى على الممالك شرقًا وغربًا‏.‏ وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعدًا وقُربا‏.‏ ففرقها على الوجه الشرعي، والسبيل المرضي‏.‏ ثم لما مات شهيدًا وقد عاش حميدًا، أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار‏.‏ على خلافة أمير المؤمنين ‏[‏أبي عمرو‏]‏ عثمان بن عفان شهيد الدار‏.‏ فكسى الإسلام ‏[‏بجلاله‏]‏ رياسة حلة سابغة‏.‏ وأمدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة، وظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمة الله وظهر دينه‏.‏ وبلغت الأمة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها، فكلما عَلَوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار، امتثالا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ وليجد الكفار منكم غلظة‏]‏ عليهم في قتالكم لهم، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا لأخيه المؤمن، غليظًا على عدوه الكافر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 73، والتحريم‏:‏ 9‏]‏، وفي الحديث‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أنا الضَّحوك القَتَّال‏"‏، يعني‏:‏ أنه ضَحُوك في وجه وليه، قَتَّال لهامة عدوه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ‏}‏ أي‏:‏ قاتلوا الكفار، وتوكلوا على الله، واعلموا أن الله معكم إن اتقيتموه وأطعتموه‏.‏

وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة، في غاية الاستقامة، والقيام بطاعة الله تعالى، لم يزالوا ظاهرين على عدوهم، ولم تزل الفتوحات كثيرة، ولم تزل الأعداء في سَفال وخسار‏.‏ ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك، طمع الأعداء في أطراف البلاد، وتقدموا إليها، فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام، فأخذوا من الأطراف بلدانا كثيرة، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام، ولله، سبحانه، الأمر من قبل ومن بعد‏.‏ فكلما قام ملك من ملوك الإسلام، وأطاع أوامر الله، وتوكل على الله، فتح الله عليه من البلاد، واسترجع من الأعداء بحسبه، وبقدر ما فيه من ولاية الله‏.‏ والله المسئول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين، وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم، إنه جواد كريم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124 - 125‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ‏}‏ فمن المنافقين ‏{‏مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه السورة إيمانا‏؟‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏‏.‏

وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص، كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء، بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد، وقد بسط الكلام على هذه المسألة في أول ‏"‏شرح البخاري‏"‏ رحمه الله، ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ زادتهم شكا إلى شكهم، وريبا إلى ريبهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 82‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏، وهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم، كما أن سيئ المزاج لو غذي بما غذي به لا يزيده إلا خبالا ونقصا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126 - 127‏]‏

‏{‏أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ أولا يرى هؤلاء المنافقون ‏{‏أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ‏}‏ أي‏:‏ يختبرون ‏{‏فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يتوبون من ذنوبهم السالفة، ولا هم يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم‏.‏

قال مجاهد‏:‏ يختبرون بالسَّنة والجوع‏.‏

وقال قتادة‏:‏ بالغزو في السنة مرة أو مرتين‏.‏

وقال شريك، عن جابر -هو الجعفي -عن أبي الضُّحى، عن حذيفة‏:‏ ‏{‏أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ‏}‏ قال‏:‏ كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين، فيضل بها فئام من الناس كثير‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

وفي الحديث عن أنس‏:‏ ‏"‏لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا يزداد الناس إلا شحا، وما من عام إلا والذي بعده شر منه‏"‏، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ‏}‏ هذا أيضا إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ‏}‏ أي‏:‏ تَلَفَّتُوا، ‏{‏هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا‏}‏ أي‏:‏ تولوا عن الحق وانصرفوا عنه، وهذا حالهم في الدين لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يقيمونه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ‏.‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ‏.‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 49-51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ‏.‏ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏36، 37‏]‏، أي‏:‏ ما لهؤلاء القوم يتقللون عنك يمينا وشمالا هروبا من الحق، وذهابا إلى الباطل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏،

‏{‏بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يفهمون عن الله خطابه، ولا يقصدون لفهمه ولا يريدونه، بل هم في شده عنه ونفور منه فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128 - 129‏]‏

‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏

يقول تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم، أي‏:‏ من جنسهم وعلى لغتهم، كما قال إبراهيم، عليه السلام‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ منكم وبلغتكم، كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي، والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى‏:‏ إن الله بعث فينا رسولا منا، نعرف نسبه وصفته، ومدخله ومخرجه، وصدقه وأمانته، وذكر الحديث‏.‏

وقال سفيان بن عُيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خرجت من نكاح، ولم أخرج من سِفاح‏"‏‏.‏ وقد وصل هذا من وجه آخر، كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهُرْمُزي في كتابه ‏"‏الفاصل بين الراوي والواعي‏"‏‏:‏ حدثنا أبو أحمد يوسف بن هارون بن زياد، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال‏:‏ أشهد على أبي لحدثني، عن أبيه، عن جده، عن علي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يمسني من سفاح الجاهلية شيء‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ‏}‏ أي‏:‏ يعز عليه الشيء الذي يَعْنَتُ أمته ويشق عليها؛ ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال‏:‏ ‏"‏بعثت بالحنيفية السمحة‏"‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏إن هذا الدين يسر‏"‏ وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة، يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه‏.‏

‏{‏حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم‏.‏

قال الطبراني‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ،

حدثنا سفيان بن عيينة، عن فِطْر، عن أبي الطفيل، عن أبي ذر قال‏.‏ تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علما -قال‏:‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما بقي شيء يُقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا ‏[‏أبو‏]‏ فَطَن، حدثنا السعودي، عن الحسن بن سعد، عن عبدة النَّهدي، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله لم يحرم حُرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مُطَّلَع، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار، كتهافت الفراش، أو الذباب‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جُدْعان، عن يوسف بن مِهْرَان، عن ابن عباس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ملكان، فيما يرى النائم، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه‏.‏ فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه‏:‏ اضرب مثل هذا ومثل أمته‏.‏ فقال‏:‏ إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حُلَّة حِبَرَة فقال‏:‏ أرأيتم إن ورَدت بكم رياضا معشبة، وحياضا رواء تتبعوني‏؟‏ فقالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فانطلق بهم، فأوردهم رياضا معشبة، وحياضا رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم‏:‏ ألم ألفكم على تلك الحال، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني‏؟‏ فقالوا‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه، وحياضا هي أروى من هذه، فاتبعوني‏.‏ فقالت طائفة‏:‏ صدق، والله لنتبعنه وقالت طائفة‏:‏ قد رضينا بهذا نقيم عليه‏.‏

وقال البزار‏:‏ حدثنا سلمة بن شبيب وأحمد بن منصور قالا حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي، عن عِكْرِمة عن أبي هريرة، رضي الله عنه؛ أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعينه في شيء -قال عِكْرِمة‏:‏ أراه قال‏:‏ ‏"‏في دم‏"‏ -فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ثم قال‏:‏ ‏"‏أحسنت إليك‏؟‏‏"‏ قال الأعرابي‏:‏ لا ولا أجملت‏.‏ فغضب بعض المسلمين، وهموا أن يقوموا إليه، فأشار رسول الله إليهم‏:‏ أن كفوا‏.‏ فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منزله، دعا الأعرابي إلى البيت، فقال له‏:‏ ‏"‏إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك، فقلت ما قلت‏"‏ فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، وقال‏:‏ ‏"‏أحسنت إليك‏؟‏‏"‏ فقال الأعرابي‏:‏ نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنك جئتنا تسألنا فأعطيناك، فقلت ما قلت، وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي، حتى يذهب عن صدورهم‏"‏‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فلما جاء الأعرابي‏.‏ قال إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه، فقال ما قال، وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي، ‏[‏كذلك يا أعرابي‏؟‏‏]‏ قال الأعرابي‏:‏ نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة، فشردت عليه، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا‏.‏ فقال لهم صاحب الناقة‏:‏ خلوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها، وأعلم بها‏.‏ فتوجه إليها وأخذ لها من قَتَام الأرض، ودعاها حتى جاءت واستجابت، وشد عليها رحْلها وإنه لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار‏"‏‏.‏ ثم قال البزار‏:‏ لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه‏.‏ قلت‏:‏ وهو ضعيف بحال إبراهيم بن الحكم بن أبان، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ‏.‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 215-217‏]‏‏.‏ وهكذا أمره تعالى‏.‏

وهذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا‏}‏ أي‏:‏ تولوا عما جئتهم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة، ‏{‏فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ الله كافيَّ، لا إله إلا هو عليه توكلت، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 9‏]‏‏.‏

‏{‏وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏ أي‏:‏ هو مالك كل شيء وخالقه، لأنه رب العرش العظيم، الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلائق من السموات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورون بقدرة الله تعالى، وعلمه محيط بكل شيء، وَقَدَره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل‏.‏

قال عبد الله بن الإمام أحمد‏:‏ حدثني محمد بن أبي بكر، حدثنا بشر بن عمر، حدثنا شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْرَان، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، عن أبي بن كعب قال‏:‏ آخر آية نزلت من القرآن هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏

وقال عبد الله بن الإمام أحمد‏:‏ حدثنا روح بن عبد المؤمن، حدثنا عمر بن شقيق، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، رضي الله عنه؛ أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر، رضي الله عنه، فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة‏:‏ ‏{‏ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 127‏]‏، فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن‏.‏ فقال لهم أبي بن كعب‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ إلى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏هذا آخر ما أنزل من القرآن‏"‏ قال‏:‏ فختم بما فُتح به، بالله الذي لا إله إلا هو، وهو قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏ غريب أيضا‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا علي بن بحر، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير، رضي الله عنه، قال‏:‏ أتى الحارث بن خَزَمة بهاتين الآيتين من آخر براءة‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ إلى عمر بن الخطاب، فقال‏:‏ من معك على هذا‏؟‏ قال‏:‏ لا أدري، والله إني لأشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتها وحفظتها‏.‏ فقال عمر‏:‏ وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم -ثم قال‏:‏ لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة، فانظروا سورة من القرآن، فضعوها فيها‏.‏ فوضعوها في آخر براءة‏.‏

وقد تقدم أن عمر بن الخطاب هو الذي أشار على أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما، بجمع القرآن، فأمر زيد بن ثابت فجمعه‏.‏ وكان عمر يحضرهم وهم يكتبون ذلك‏.‏ وفي الصحيح أن زيدا قال‏:‏ فوجدت آخر سورة ‏"‏براءة‏"‏ مع خزيمة بن ثابت -أو‏:‏ أبي خزيمة وقدمنا أن جماعة من الصحابة تذكروا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال خزيمة بن ثابت حين ابتدأهم بها، والله أعلم‏.‏

وقد روى أبو داود، عن يزيد بن محمد، عن عبد الرزاق بن عمر -وقال‏:‏ كان من ثقات المسلمين من المتعبدين، عن مدرك بن سعد -قال يزيد‏:‏ شيخ ثقة -عن يونس بن ميسرة، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال‏:‏ من قال إذا أصبح وإذا أمسى‏:‏ حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، إلا كفاه الله ما أهمه‏.‏

وقد رواه ابن عساكر في ترجمة ‏"‏عبد الرزاق بن عمر‏"‏ هذا، من رواية أبى زُرْعَة الدمشقي، عنه، عن أبي سعد مُدْرِك بن أبي سعد الفزاري، عن يونس بن ميسرة بن حليس، عن أم الدرداء، سمعت أبا الدرداء يقول‏:‏ ما من عبد يقول‏:‏ حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، صادقا كان بها أو كاذبا، إلا كفاه الله ما هَمَّه‏.‏

وهذه زيادة غريبة‏.‏ ثم رواه في ترجمة عبد الرزاق أبي محمد، عن أحمد بن عبد الله بن عبد الرزاق، عن جده عبد الرزاق بن عمر، بسنده فرفعه فذكر مثله بالزيادة‏.‏ وهذا منكر، والله أعلم‏.‏

آخر سورة براءة، والحمد لله وحده‏.‏

تفسير سورة يونس

‏[‏وهي مكية‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ‏}‏

أما الحروف المقطعة في أوائل السور، فقد تقدم الكلام عليها ‏[‏مستوفى‏]‏ في أوائل سورة البقرة‏.‏

وقال أبو الضحى، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏الر‏"‏، أي‏:‏ أنا الله أرى‏.‏ وكذا قال الضحاك وغيره‏.‏

‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ‏}‏ أي‏:‏ هذه آيات القرآن المحكم المبين وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏قال‏:‏ التوراة والإنجيل‏]‏‏.‏ ‏[‏وقال الحسن‏:‏ التوراة والزبور‏]‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ‏}‏ قال‏:‏ الكتب التي كانت قبل القرآن‏.‏ وهذا القول لا أعرف وجهه ولا معناه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ الآية، يقول تعالى منكرا على من تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من البشر، كما أخبر تعالى عن القرون الماضية من قولهم‏:‏ ‏{‏أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 6‏]‏ وقال هود وصالح لقومهما‏:‏ ‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 63‏:‏ 69‏]‏ وقال تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا‏:‏ الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد‏.‏ قال‏:‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ اختلفوا فيه، فقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ ‏[‏عِنْدَ رَبِّهِمْ‏]‏‏}‏ يقول‏:‏ سبقت لهم السعادة في الذكر الأول‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ يقول‏:‏ أجرا حسنا، بما قدموا‏.‏ وكذا قال الضحاك، والربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 2، 3‏]‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏ قال‏:‏ الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم‏.‏

‏[‏وقال عمرو بن الحارث عن قتادة أو الحسن ‏{‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏]‏‏}‏ قال‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم شفيع لهم‏.‏ وكذا قال زيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان‏.‏

وقال قتادة‏:‏ سَلفُ صدق عند ربهم‏.‏

واختار ابن جرير قول مجاهد -أنها الأعمال الصالحة التي قدموها -قال‏:‏ كما يقال‏:‏ ‏"‏له قدم في الإسلام‏"‏ ومنه قول ‏[‏حسان‏]‏ رضي الله عنه‏.‏

لنا القَدَمُ‏}‏ العُليا إليك *** وخَلْفُنا لأوَّلِنا في طاعَة اللهِ تَابعُ

وقول ذي الرُّمة‏:‏

لكُم قَدَمٌ لا يُنْكرُ الناسُ أنها *** مَعَ الحسَبِ العَادِيّ طَمَّت على البَحْر

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ مع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم، رجلا من جنسهم، بشيرا ونذيرا، ‏{‏قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ ظاهر، وهم الكاذبون في ذلك‏.‏